لستُ سوى مراقب عن كثب للسياسة والتاريخ المصريين. وآمل أن يسمح لي الذين يشاركونني في الحوار حول مصر بأن أقدّم بعض الملاحظات عمّا يمكن أن يصبح في نهاية المطاف مهماً لنا جميعاً، نحن الذين نحرص على المنطقة، أو ندرّسها. سأركّز ملاحظاتي على الأسباب الكامنة وراء الخطاب الاستقطابيّ حول مصر، داخل وخارح البلاد في آن واحد معاً، وأختتم بتعليق حول مجئ ليبرالية جديدة. وتستند ملاحظاتي إلى رصْدٍ دقيق استمرّ أكثر من ستة أسابيع للإعلام المصري بمختلف أنواعه، وللجزيرة، والعربية، ومجموعة من وسائل الإعلام والمنشورات الأوربية والأميركية، وبينها وسائل الإعلام المشتبه بها عادة (كالواشنطن بوست، والنيويورك تايمز، والإكونومست، والغارديان، إلخ.) وعدد من المدوّنات (المواقع)، وحسابات التويتر، بالإضافة إلى بعض التغطية الإعلامية والمقابلات التي قمتُ بها في مصر وعنها في العام الماضي. إن الكلمات التالية تهدف إلى أن تكون تأمّلاً، لا رواية، ولن تشمل مؤلفين معينين أو إعلاماً معيّناً قيد التساؤل حتى لا نُفْرد مواقع موجودة كلها حولنا.
"صباح الخير، أنا متأخر، غير أنني خبير بمصر الآن"
إن كثيراً من المعلقين، من جميع جوانب الطيف السياسي، يجيئون إلى المشهد المصري كمشاهدين لم يتابعوا عن كثب الأحداث التي جرتْ بين 11 شباط\\فبراير 2011 و30 حزيران\\يونيو. فضلاً عن ذلك، إنّ معرفتهم بالكيان السياسي المصري قبل 2011 محدودة جداً. هكذا، غالباً ما تنطلق الأحكام من مواقف مسبقة بخصوص الثنائيات المزيفة كمثل "الإسلاموية" إزاء "العلمانية"، كما لو أنه ليس هناك تاريخ سابق على 2011، أو كما لو أنّه لم يكن هناك سجلٌّ للسياسات للحكم عليها أثناء رئاسة مرسي. وتشتمل التحليلات، في أكثر الأحيان، على السرديات الشاملة التي تقدّم مصر كساحة معركة لا تُبْرز إلا بضعة فاعلين ("الإسلامويون" إزاء "الليبراليين"؛ "الجيش" إزاء "الإخوان المسلمين"؛ "الثوريون" إزاء "المعادين للثورة") وفاعلين لا يتلاءمون مع هذه الفئات الثنائية. وكما هو الأمر حيال سوريا، نشهد في نهاية المطاف معسكرات مفهوميّة مستندة إلى الانطباعات ومتخندقة بدلاً من تحليل ديناميّ قابل للتنقيح. ويصبح الخطاب حول مصر أكثر أهمية مما يحدث فعلياً فيها. وينطبق الأمر نفسه على الإعلام المصري المحلي إذا لم يركّز المراقبون إلا على بقعة واحدة.
"الإخوان المسلمون هم مجرد حزب عارضَ الديكتاتورية"
يعرفُ كثير من المعلّقين عن الدولة، أو الديكتاتورية المصرية، في ظل حكم مبارك، وعن مآثره الاقتصادية والتمفصل بين المال والسلطة؛ والتنازلات لإسرائيل والتعاون معها؛ وقمع البدائل السياسية. غير أنّ معظمنا لا يعرف سوى القليل عن تاريخ الإخوان المسلمين، أو ما دمنا في هذا الصدد، عن أولويات التنظيم وسلوكه وسياساته بعد انتخاب مرسي. إن الخطأ التحليلي الشائع، والأكثر فضائحية، هو إغفال دور الإخوان المسلمين في تملّق الجيش وإعادة تشكيل الدولة البوليسية وبعض لوازمها السياسية والاجتماعية في ظل قيادة مرسي، وقبلها. إن فكرة أن الإخوان استُخدموا أيضاً من قبل الجيش (كما استُخدمت تمرّد) ذائعة الصيت. وما هو أكثر أهمية، على أي حال، هو أنّ الإخوان ومرسي اتّخذوا قرارات علنية لتقوية يد النظام القديم، وكان هناك شبه غياب لحدٍّ مؤسساتي من سلطة الدولة البوليسية، أو احتمال استغلالها للسلطة. إن الإخوان، بالنسبة لأولئك الذين لا يرون إلا ماضي ضحية تعارض الحكم الاستبدادي، هم أكثر من هذا بكثير وأقل من هذا بكثير. ذلك أنّ سجلّهم الاجتماعي والاقتصادي قبل 2011،على الرغم من الخدمات التي قدموها، هو كمثل صندوق أسود، أو لا صلة له، لكثير من المعلّقين و"الخبراء" الفوريين.
ازدواج الإعلام
لعب الإعلام دوراً مخادعاً على نحو استثنائيّ داخل وخارج مصر، داعماً السرد التحزّبي في صيغته المتطرّفة. وقد جُوبهتْ الشيْطنة الشاملة المتواصلة للإخوان المسلمين من قبل معظم داعمي الإخوان والمدافعين عنهم بإهمال كامل لتجاوزاتهم، وتواطئهم مع فلول الجيش، ومخالفاتهم، خاصة بعد 2011. إن مشاهدة نمط أو آخر من المحطات التلفزيونية (أو قراءة نمط أو آخر من المنشورات) يوضح المسبّقات التي لا يقبلها العقل. وكان الأكثر خطراً هو النقد اللاذع في معظم وسائل الإعلام الليبرالية المصرية للإخوان المسلمين وكلّ ما يمثلونه اليوم أو ما مثّلوه في الماضي. لم يُعبّئ هذا الخطاب الأجساد فحسب، بل العقول أيضاً، وجهزها كي تتوقع وتقبل وربما تُبرر الفعل العنيف والوحشي الذي ارتُكبَ ضدّهم. إن المكافئ الرجعي للإخوان المسلمين حول “الآخر" كان أيضاً يقوم بعمله، في الإعلام والفعل. ربما نحن معتادون عليه وكنا غير متأثرين. مع ذلك إن هذا المكافئ الرجعي للإخوان ضئيل بالمقارنة مع الخطاب المؤسساتي القسري والمدعوم بالفعل ضدهم.
نظر
يواصل الكثيرون تفضيل نظرة إقليمية على نظرة محليّة. وهم هكذا يؤولون الأحداث داخل مصر في علاقة مع عوامل خارجية وعلاقات مستقلة عن الشوارع والأروقة في مصر. تارة، تستند النظرة إلى عدسات مضادة للإمبريالية، وطوراً تنطلق من ملاحظات حول التقدم أو التراجع في الانتفاضات العربية. وتُسْتَخْدمُ دروسٌ من حالات انتفاضات أخرى لتفسير المشهد المصري ولكي تُوجّه الحكم والتعليق. ولا شكّ أن الارتدادات الإقليمية ستزيد أضعافاَ مضاعفة، ولكننا لم نصل إلى هناك بعد. سنصل إلى هناك إذا توترت المعركة على الأرض وتحوّلت إلى لعبة رابح واحد أو خاسر واحد كاملة بين الإخوان المسلمين والدولة (وربما مع لاعبين جدد)، دون إمكانية لتدخل لاعب محليّ قوي. سيزيد هذا أيضاً من مستوى التغطية الصحفية التي تفتقر للمهنية لدى وسائل الإعلام الإقليمية الرئيسية، وستحافظ كلٌّ منها على سردها ومصالحها. يمكن أن تستدعي نوع التصفيق الغبيّ والاقتناع بالفضيلة الذاتية الشائع في حالة الهاوية السورية.
إحراق الكنائس والعنف الطائفي
إن العنف الطائفي، والذي هو ظاهرياً طائفي، والأفعال المقرفة المتمثلة في إحراق الكنائس (ليس هذا توجهاً حديثاً) يجب أن يُشجب بشدّة. ولكن كما هي الحالة مع الموقف في العراق، إنّ هذه الأفعال المروّعة يجب أن تُوضع في منظور أوسع. يفضّل بعض المعلّقين هذه الأفعال الشنيعة على حساب كل ما حدث في مصر مؤخراً. إنّ هذا ليس بأية وسيلة عن كوننا نحتاج إلى أن "نفهم" عمليات حرق الكنائس والعنف الطائفي، خاصة في مواجهة جماعة أقلية. في الحقيقة، إن هذا الغياب للتسامح، الذي ينمو في المنطقة، يجب أن يواجه مباشرة على جميع المستويات. إن ما هو مطلوب بالأحرى هو استجوابُ وفضْح زيف الوقائع المجزأة والمختزلة والخطابات المتواشجة التي تحصر انتباه المرء في أعمال وحشية متبادلة حصرية ومؤلمة. هناك الكثير الذي يتعلق بالقصة على ما يبدو. لا تجعلوني أبدأ بالإيمان والحق بعدم الإيمان في أي شيء غيبيّ، وخاصة "التحرر من الدين" الهام جداً.
نزع الطابع الإنساني عن الإخوان المسلمين
يستحق هذا العامل فئته الخاصة. إنّ أولئك الذين يعرفون تاريخ الإخوان المسلمين، وخاصة مواقفهم وعلاقاتهم الرسمية في ظل حكم مرسي، يعرفون أن كثيراً مما مثّله الإخوان مؤخراً غير جدير بالثناء، هذا إذا قلنا أقلّ شيء، والقائمة طويلة جداً ومزعجة. ولكنّ درجة ونوع نزع الطابع الإنساني الذي يخضع له داعمو الإخوان في الإعلام المصري، وفي قلوب وأذهان كثيرة، ليسا مروّعين فحسب، بل يسبّبان العمى الشامل أيضاً.
يبدو الإخوان المسلمون كأنهم كارثة سياسية واقتصادية سائرة في وجهة نظر كثير من الأشخاص العاقلين، وكذلك المراقبين المتعاطفين الذين هم بخلاف ذلك. وبفضل تنصيب مرسي، إن هذا الموقف أقل إثارة للجدل الآن. ثمة الكثير من الأدلة على غياب الكفاءة هذا، غير أنّ الجماعة ليست حيث تكمن السلطة الحقيقية في مصر. إنّ النظر إلى الإخوان المسلمين على أنهم المجرم غير أخلاقي وخاطئ تحليلياً في آن واحد معاً. إنها أيضاً وصفة لدعوة المجرمين الحقيقيين (أي الجيش، والأجهزة القمعية، فلولها وشركائها التجاريين، وداعميهم الخارجيين وعلاقاتهم\\اتفاقياتهم) الذين يتمتعون بالسلطة الحقيقية لكي يحكموا بحصانة، أو لاستدعاء الحرب الأهلية. إنّ ما هو أكثر أهمية هو أنّ السابقة التي وُضعتْ الشهر الماضي من زاوية استخدام القوة هي نفسها مسؤولة عن أية فكرة عن "الثورة الشعبية"، في ظروف مختلفة. لا يعني هذا تجاهل أصوات الإخوان المسلمين، التي تجرِّد الآخر من إنسانيته، ووجهات النظر الرجعية التي غالباً ما اعتُنِقَتْ ونُشرتْ ضدّ أولئك الذين ليسوا من الفصيلة نفسها. على أي حال، إن أولئك الذين يستطيعون أن يبيدوا الآخر هم عادة الذين يجب أن نحترس منهم. بوسعك أن تثير الناس على أن يكونوا غير متسامحين وأن تحرق الكنائس. على أي حال، مفترضين اختلال توازن القوى، إن إثارة دولة بوليسية تدعمها حركة شعبية هي بنيوياً مهلكة أكثر.
مسائل جوهرية تحت السطح
إن التشديد في كثير مما نكتبه، إن لم يكن في كلّه، هو على السياسة والسيرورة، الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك لمجموعة من الأسباب المفترضة. ما هو مفقود، وما سيبزغ في الوقت المناسب، هو أنّ ما نشهده في مصر حالياً هو أيضاً صراع على تعريف أو فرض هوية عامة. وقد عُلِّقتْ هذه السيرورة في عهد مبارك، وربما من قبل، بسبب هيمنة الدولة البوليسية وتغييب السياسة والاختلاف. وقد ظهرت صراعات كهذه إلى السطح بعد شباط\\\\فبراير 2011 مع توسّع الفضاء السياسي واستئناف السياسة، ولو كانت ناقصة. لم يضعْ كل شيء، لكنّ الرحلة ستكون طويلة، وسيزداد طولها إذا انضمّ فاعلون خارجيون. لن أعلق على الخيارات والخطابات المختلفة حول "الهوية المصرية" التي يُتنَازَع عليها، أو تُدعم لأنّ الأمر يستحق معالجة مستقلة ودقيقة. يكفي القول إنّ مسائل جوهرية كهذه هي في حالة لعب سواء تمت المجاهرة بها أم لا. وفي تقرير كتبْتُهُ بعد أن شاهدتُ الصدامات في روكسي، في شوارع القاهرة في تلك الليلة المشؤومة، في 5 كانون الأول\\ديسمبر، 2012، قلت إن "هذا ليس مناوشة ما أو صداماً جماعياً. إنها معركة حقيقية حاسمة حول مستقبل مصر". نحن في وسطها اليوم وأخشى من أن يواصل الإعلام لعب دور تقسيمي غير منتج. (آسف جداً على اقتطاف كلامي. أعرف أن هذا مريع غير أنني أحاول أن أشير إلى خيط).
خطاب الدولة حول الإرهاب
لا تجعلوني أبدأ الكلام عن كيف نسج بعض الإعلام الخاص هذا الخطاب. أنا مقتنع الآن أن مجرد استحضار عبارة "الحرب على الإرهاب" (مهما كانت "شعبية") من قبل أية حكومة هو أمر قريب من تبرير فعل غير أخلاقي، أو "حرب إرهابية". شاركتْ حكومات مختلفة سياسياً، كالولايات المتحدة وإسرائيل وسوريا ومصر وروسيا في هذا التصوير المُتْعَب الآن. وهناك سبب جيد لعدم أخذ مزاعم تلك الحكومات على محمل الجد قبل تحقيق أكثر عمقاً. من ناحية أخرى، إن خطاب التيار الرئيسي العام في إعلام الولايات المتحدة يواصل انفصاله المطلق عن الصراعات على الأرض على نحو مذهل. وباستثناء المعاني الضمنية للقوة الأميركية، من الأفضل تجاهل هذه التغطية.
النصر الجديد لليبرالية
يجب أن ننتبه أيضاً إلى الصلات بين خطابات كهذه لفاعلين أقوياء وداعميهم. وفي هذا السياق، نحن نشهد صعود خطاب ليبرالي عربيّ مُرمَّم يحاكي التيار الذي في الولايات المتحدة، ويركز على مزيج من الامتياز والعضوية والتصنيف والهرميّات الاجتماعية، وجرعة صحيّة من الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام). إن خطابات كهذه فريدة في كونها تجيز الحق في استخدام العنف الأقصى، شرعياً، لمجابهة نوع العنف الذي يعطّل الامتياز والهرميّات. لا تستطيع خطابات كهذه أن تتواصل بدون تصنيف مميّز لمجموعتين على الأقل، بحيث أن إحداهما قابلة للاستهلاك نوعاً ما، من أجل المدنية والحضارة والديمقراطية والحرية وهلمّجرّا. وبفضل الإعلام، كان تصنيفٌ كهذا وافر الحضور، ونجح بشكل كبير عبر تركيزه حصرياً على "الأمة" و"التقدم"، والعوائق التي يجب أن تُزال.
ما هو مموّه في هذا التصنيف الليبرالي هو الهرميّات الاجتماعية الحقيقية والتقسيمية التي هي عمودية، وتتعامل مع مسائل العمل والاستغلال والتوزيع والقوة الاقتصادية. لا يعني هذا التقليل من شأن الأزمة "السياسية" القائمة، بل تأكيد أهمية نظرة أعمق والواقع الاجتماعي الذي، لسوء الحظ، من المحتمل أن يقاوم أي حلٍّ للوضع القائم. ثم سنعود إلى الأربعين مليون مصري المعدمين، واقتصاد سياسي "يجب" أن يركز على الاستثمار والنموّ ونظريات "التنقيط" بدعم من المؤسسات المالية العالمية. سيبتهج الإعلام بجيوب المقاومة التى ليست لها أية علاقة بالموضوع، بعد وقت طويل من خروج الإخوان (الذين وُسموا بـ "الشر") من الصورة.
في غضون ذلك
خارجاً من خطاب مسموم وانفجاريٍّ حول سوريا، ما أزال أعتقد أن المسائل في مصر أقل تعقيداً، وأكيد أنها أقل وحشية. غير أن التطورات في مصر ليست أقل أهمية. تواجهنا مسؤولية أن نطليب أكثر من أنفسنا كمراقبين، وكتاب ومحللين. ربما كان المكان المثمر كثيراً الذي يجب أن نبدأ منه ـ بعيداً عن تفاصيل أحداث الأيام ـ هو استقصاء صعود ليبرالية جديدة متحالفة مع سلطة سياسية، وإلى حد مهم في بعض الحالات، مع سلطة اقتصادية.
[ نشر هذا المقال للمرة الأولى على جدلية باللغة الإنجليزية وترجمه إلى العربية أسامة إسبر]